فصل: ما نزل في قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ما اتبع محمدا إلا شرارنا ‏‏)‏‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة ‏‏:‏‏ ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ؛ فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ‏‏:‏‏ ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، وهم يتلون الكتاب ، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ‏‏)‏‏ ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، أي يكفر اليهود بعيسى ، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى عليه السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى عليه السلام ، من تصديق موسى عليه السلام ، وما جاء به من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه ‏‏.‏‏‏

 مانزل في طلب ابن حريملة أن يكلمه الله

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فَلْيُكلِّمنا حتى نسمع كلامه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ، أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في سؤال ابن صوريا للنبي عليه الصلاة و السلام بأن يتهود

وقال عبدالله بن صوريا الأعور الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ؛ وقالت النصارى مثل ذلك ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قول عبدالله بن صوريا وما قالت النصارى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ، قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم القصة إلى قول الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تُسئلون عما كانوا يعملون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما قالته اليهود عند صرف القبلة إلى الكعبة

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصُرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن أبي رافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ‏‏؟‏‏ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏‏.‏‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ‏‏.‏‏ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ‏‏)‏‏ ، أي ابتلاء واختبارا ‏‏(‏‏ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ‏‏)‏‏ ، أي من الفتن ‏‏:‏‏ أي الذين ثبَّت الله ‏‏(‏‏ وما كان الله ليضيع إيمانكم ‏‏)‏‏ ، أي إيمانكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم ، واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة ، وطاعتكم نبيكم فيها ‏‏:‏‏ أي ليُعطينكم أجرهما جميعا ‏‏(‏‏ إن الله بالناس لرءوف رحيم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 تفسير ابن هشام لبعض الغريب

ابن هشام ‏‏:‏‏ شطره ‏‏:‏‏ نحوه وقصده ‏‏.‏‏ قال عمرو بن أحمر الباهلي - وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان - يصف ناقة له ‏‏:‏‏

تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة * قد كارب العقد من إيفادها الحقبا

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

وقال قيس بن خويلد الهذلي يصف ناقته ‏‏:‏‏

إن النَّعوس بها داء مخامرها * فشطرها نظر العينين محسورُ

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والنعوس ‏‏:‏‏ ناقته ، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير ، من قوله ‏‏:‏‏ وهو حسير ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون ‏‏.‏‏ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ، إنك إذا لمن الظالمين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 كتمانهم ما في التوراة من الحق

وسأل معاذ بن جبل ، أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ ، أخو بني عبدالأشهل ؛ وخارجة بن زيد ، أخو بلحارث بن الخزرج ، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 جوابهم للنبي عليه الصلاة و السلام حين دعاهم إلى الإسلام

قال ‏‏:‏‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم عذاب الله ونقمته ؛ فقال له رافع بن خارجة ، ومالك بن عوف ‏‏:‏‏ بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا منا ‏‏.‏‏

فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليك آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 جمعهم في سوق بني قينقاع

ولما أصاب الله عز وجل قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع ، حين قدم المدينة ، فقال ‏‏:‏‏ يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا ، فقالوا له ‏‏:‏‏ يا محمد ، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ‏‏.‏‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 دخوله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس

قال ‏‏:‏‏ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ؛ فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد ‏‏:‏‏ على أي دين أنت يا محمد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ على ملة إبراهيم ودينه ؛ قالا ‏‏:‏‏ فإن إبراهيم كان يهوديا ؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ فهلم إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهما ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ‏‏.‏‏ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 تنازع اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام

وقال أحبار يهود ونصارى نجران ، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا ، فقالت الأحبار ‏‏:‏‏ ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى من أهل نجران ‏‏:‏‏ ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ‏‏.‏‏ فأنزل الله عز وجل فيهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ،‏ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏‏.‏‏ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين ‏‏.‏‏ إن أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه ، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في إيمانهم غدوة وكفرهم عشيا

وقال عبدالله بن صيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف ، بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ، ويرجعون عن دينه ‏‏.‏‏

فأنزل الله تعالى فيهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ‏‏.‏‏ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ‏‏.‏‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، قل إن الهدى هدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في قول أبي رافع و النجراني ‏‏(‏‏ أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ‏‏)‏‏

وقال أبو رافع القرظي ، حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام ‏‏:‏‏ أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ‏‏؟‏‏ وقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له ‏‏:‏‏ الرّبيِّس ، - ويروى ‏‏:‏‏ الريس ، والرئيس - ‏‏:‏‏ أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ‏‏؟‏‏ أو كما قال ‏‏.‏‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ، فما بذلك بعثني الله ، ولا أمرني ؛ أو كما قال ‏‏.‏‏

فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ بعد إذ أنتم مسلمون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الربانيون ‏‏:‏‏ العلماء الفقهاء السادة ؛ واحدهم ‏‏:‏‏ رباني ‏‏.‏‏

قال الشاعر ‏‏:‏‏

لو كنت مرتهنا في القوس أفتنني * منها الكلام وربَّانيَّ أحبارِ

تفسير ابن هشام لبعض الغريب

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ القوس ‏‏:‏‏ صومعة الراهب ‏‏.‏‏ وأفتنني ، لغة تميم ‏‏.‏‏ وفتنني ، لغة قيس ‏‏.‏‏

قال جرير ‏‏:‏‏

لا وصل إذ صرمت هند ولو وقفت * لاستنزلتني وذا المسحين في القوس

أي صومعة الراهب ‏‏.‏‏ والربّاني ‏‏:‏‏ مشتق من الرب ، وهو السيد ‏‏.‏‏ وفي كتاب الله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فيسقي ربه خمرا ‏‏)‏‏ ، أي سيده ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في أخذ الميثاق عليهم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم ذكر ما أخذ الله عليهم ، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذ هو جاءهم ، وإقرارهم ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى آخر القصة ‏‏.‏

 سعيهم في الوقيعة بين الأنصار

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ومر شأس بن قيس ، وكان شيخا قد عسا ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخرزج ، في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ‏‏.‏‏

فقال ‏‏:‏‏ قد اجتمع ملأ بن قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ‏‏.‏‏ فأمر فتى شابا من يهود كان معهم ، فقال ‏‏:‏‏ اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ‏‏.‏‏

 شيء عن يوم بعاث

وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي ، أبو أسيد بن حضير ؛ وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعا ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قال أبو قيس بن الأسلت ‏‏:‏‏

على أن قد فُجعت بذي حفاظ * فعاودني له حزن رصين

فإما تقتلوه فإن عمرا * أعضَّ برأسه عَضْبٌ سَنينُ

وهذا البيتان في قصيدة له ‏‏.‏‏ وحديث يوم بعاث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع ‏‏.‏‏

 تفسير ابن هشام لبعض الغريب

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ سنين ‏‏:‏‏ مسنون ، من سنَّه ، إذا شحذه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ففعل ‏‏.‏‏ فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث ، من الأوس ، وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه ‏‏:‏‏ إن شئتم رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان جميعا ، وقالوا ‏‏:‏‏ قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة - والظاهرة ‏‏:‏‏ الحرة - السلاح السلاح ‏‏.‏‏ فخرجوا إليها ‏‏.‏‏

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم ، فقال ‏‏:‏‏ يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بين قلوبكم ؛ فعرف أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعلمون ‏‏.‏‏ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ، وأنتم شهداء ، وما الله بغافل عما تعملون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

وأنزل الله في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأسُ من أمر الجاهلية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ‏‏.‏‏ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ‏‏.‏‏ ‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وأولئك لهم عذاب عظيم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ما اتبع محمدا إلا شرارنا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما أسلم عبدالله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا فيه ، قال أحبار يهود ، أهل الكفر منهم ‏‏:‏‏ ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 تفسير ابن هشام لبعض الغريب

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ آناء الليل ‏‏:‏‏ ساعات الليل ‏‏:‏‏ وواحدها ‏‏:‏‏ إِنْي ‏‏.‏‏ قال المتنخل الهذلي ، واسمه مالك بن عويمر ، يرثي أُثيلة ابنه ‏‏:‏‏

حلو ومر كعطف القِدح شيمته * في كل إِني قضاه الليل ينتعل

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال لبيد بن ربيعة ، يصف حمار وحش ‏‏:‏‏

يُطرِّب آناء النهار كأنه * غوي سقاه في التجار نديمُ

وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال ‏‏:‏‏ إنى ‏‏(‏‏ مقصور ‏‏)‏‏ ، فيما أخبرني يونس ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ما نزل في نهي المسلمين عن مباطنة اليهود

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان رجال من المسلمين يُواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف ، فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ، لا يألونكم خبالا ، ودُّوا ما عنتُّم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ‏‏.‏‏ ها أنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ‏‏)‏‏ ، أي تؤمنون بكتابكم ، وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم ‏‏(‏‏ و إذا لقوكم قالوا آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ، قل موتوا بغيظكم ‏‏)‏‏ إلى آخر القصة ‏‏.‏‏

دخول أبي بكر بيت المدراس ، و ما كان بينه و بين فنحاص

ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود ، فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر من أحبارهم ، يقال له ‏‏:‏‏ أشيع ؛ فقال أبو بكر لفنحاص ‏‏:‏‏ ويحك يا فنحاص ‏‏!‏‏ اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله ، وقد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوارة والإنجيل ؛ فقال فنحاص لأبي بكر ‏‏:‏‏ والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغنيّ ، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا ، كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعطيناه ، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال ‏‏:‏‏ والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت رأسك ، أي عدو الله ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ‏‏:‏‏ ما حملك على ما صنعت ‏‏؟‏‏ فقال أبو بكر ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، وضربت وجهه ‏‏.‏‏ فجحد ذلك فنحاص ، وقال ‏‏:‏‏ ما قلت ذلك ‏‏.‏‏

فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه ، وتصديقا لأبي بكر ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، سنكتب ما قالوا ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وما بلغه في ذلك من الغضب ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ‏‏.‏‏ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتُبينُّنه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون ‏‏.‏‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتَوْا ، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم ‏‏)‏‏ يعني فنحاص ، وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا ؛ أن يقول الناس ‏‏:‏‏ علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا حق ، ويحُبون أن يقول الناس ‏‏:‏‏ قد فعلوا ‏‏.‏‏